فصل: تفسير الآيات رقم (34 - 36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 25‏]‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏

ضرب ‏[‏تبارك و‏]‏ تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء، مما يأكل الناس من زرع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أب وقَضْب وغير ذلك، ‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا‏}‏ أي‏:‏ زينتها الفانية، ‏{‏وَازَّيَّنَتْ‏}‏ أي‏:‏ حَسُنت بما خرج من رُباها من زهور نَضِرة مختلفة الأشكال والألوان، ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا‏}‏ الذين زرعوها وغرسوها ‏{‏أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ على جَذاذها وحصادها فبيناهم كذلك إذ جاءتها صاعقة، أو ريح بادرة، فأيبست أوراقها، وأتلفت ثمارها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا‏}‏ أي‏:‏ يبسا بعد ‏[‏تلك‏]‏ الخضرة والنضارة، ‏{‏كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ‏}‏ أي‏:‏ كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏كَأَنْ لَمْ تَغْنَ‏}‏ كأن لم تنعم‏.‏

وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيُغْمَس في النار غَمْسَة ثم يقال له‏:‏ هل رأيت خيرًا قط‏؟‏ ‏[‏هل مر بك نعيم قط‏؟‏‏]‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له‏:‏ هل رأيت بؤسا قط‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏"‏ وقال تعالى إخبارًا عن المهلكين‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 94، 95‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ نبين الحُجج والأدلة، ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعًا مع اغترارهم بها، وتمكنهم بمواعيدها وتَفَلّتها منهم، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض، في غير ما آية من كتابه العزيز، فقال في سورة الكهف‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز، حدثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏ سمعت مروان -يعني‏:‏ ابن الحكم -يقرأ على المنبر‏:‏ ‏"‏وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها‏"‏، قال‏:‏ قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس‏:‏ هكذا يقرؤها ابن عباس‏.‏ فأرسلوا إلى ابن عباس فقال‏:‏ هكذا أقرأني أبيّ بن كعب‏.‏ وهذه قراءة غريبة، وكأنها زيادة للتفسير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ‏}‏ الآية‏:‏ لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة ‏[‏عطبها و‏]‏ زوالها، رغَّب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام أي‏:‏ من الآفات، والنقائص والنكبات، فقال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

قال أيوب عن أبي قِلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قيل لي‏:‏ لتنَمْ عينُك، وليعقلْ قلبك، ولتسمع أذنك فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني‏.‏ ثم قيل‏:‏ سيّدٌ بَنَى دارًا، ثم صنع مأدبة، وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا حديث مرسل، وقد جاء متصلا من حديث الليث، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال‏:‏ خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال‏:‏ ‏"‏إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه‏:‏ اضرب له مثلا‏.‏ فقال‏:‏ اسمع سَمعت أذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلُك ومثل أمَّتك كمثل ملك اتخذ دارا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسُول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها‏"‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ حدثني خُلَيْد العَصَري، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنَبَتَيْها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين‏:‏ يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، إن ما قلَّ وكَفَى، خير مما كثر وألهى‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وأنزل ذلك في القرآن، في قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَزِيَادَة‏}‏ هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك ‏[‏أيضا‏]‏ ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس ‏[‏قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت‏]‏ وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف‏.‏

وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ وقال‏:‏ ‏"‏إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه‏.‏ فيقولون‏:‏ وما هو‏؟‏ ألم يُثقِّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم‏"‏‏.‏ وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة، من حديث حماد بن سلمة، به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب‏:‏ أخبرنا شبيب، عن أبان عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي‏:‏ يا أهل الجنة -بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم -‏:‏ إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى‏:‏ الجنة‏.‏ وزيادة‏:‏ النظر إلى وجه الرحمن عز وجل‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير أيضًا‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏ النظر إلى وجه الرحمن عز وجل‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية، حدثنا أبيّ بن كعب‏:‏ أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏الحسنى‏:‏ الجنة، والزيادة‏:‏ النظر إلى وجه الله عز وجل‏"‏‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير، به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ‏}‏ أي‏:‏ قتام وسواد في عَرَصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة، ‏{‏وَلا ذِلَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ هوان وصغار، أي‏:‏ لا يحصل لهم إهانة في الباطن، ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم‏:‏ ‏{‏فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا‏}‏ أي‏:‏ نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته، آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات، ويزدادون على ذلك، عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر عدله تعالى فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها، لا يزيدهم على ذلك، ‏{‏وَتَرْهَقُهُم‏}‏ أي‏:‏ تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَاب‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42 -44‏]‏، وقوله ‏{‏مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ أي‏:‏ من مانع ولا واق يقيهم العذاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 10 -12‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا‏}‏ إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106، 107‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 38 -42‏]‏‏.‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 30‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أهل الأرض كلهم، من إنس وجن وبر وفاجر، كما قال‏:‏ ‏{‏وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏، وقال ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 14‏]‏، وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 43‏]‏ أي‏:‏ يصيرون صِدعين، وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء؛ ولهذا قيل‏:‏ ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس‏.‏ وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة‏:‏ ‏{‏مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ أنكروا عبادتهم، وتبرءوا منهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏[‏كَلا‏]‏ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏مريم‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏، وقال ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏

وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم‏:‏ ‏{‏فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما كنا نشعر بها ولا نعلم، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك‏.‏

وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحي القيوم، السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه، آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ناهيًا عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

والمشركون أنواع وأقسام كثيرون، قد ذكرهم الله في كتابه، وبَيّن أحوالهم وأقوالهم، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ‏}‏ أي‏:‏ في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من ‏[‏عملها من‏]‏ خير وشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏

وقد قرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ‏}‏ وفسَّرها بعضهم بالقراءة، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر، وفسّرها بعضهم بحديث‏:‏ ‏"‏تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت‏"‏ الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار‏.‏

‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ذهب عن المشركين ‏{‏مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 33‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الإله فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقًا بقدرته ومشيئته، فيخرج منها ‏{‏حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 27 -31‏]‏، أإله مع الله‏؟‏ فسيقولون‏:‏ الله، ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 21‏]‏‏؟‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏‏؟‏‏؟‏ أي‏:‏ الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23‏]‏، وقال ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ أي‏:‏ بقدرته العظيمة، ومنته العميمة، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وأن الآية عامة في ذلك كله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ‏}‏ أي‏:‏ من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألُون، ‏{‏يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏، فالملك كله العلوي والسفلي، وما فيهما من ملائكة وإنس وجان، فقيرون إليه، عبيد له، خاضعون لديه، ‏{‏فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ هم يعلمون ذلكويعترفون به، ‏{‏فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ أي‏:‏ فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ‏}‏ أي‏:‏ فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له‏.‏

‏{‏فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء‏؟‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 36‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏

وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد، ‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ أي‏:‏ من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما، ثم يعيد الخلق خلقًا جديدًا‏؟‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ‏}‏ هو الذي يفعل هذا ويستقل به، وحده لا شريك له، ‏{‏فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل‏؟‏‏!‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يهدي الحيارى والضلال، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله، الذي لا إله إلا هو‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى‏}‏ أي‏:‏ أَفَيُتَّبَع ‏[‏العبد الذي يهدي إلى الحق ويُبَصّر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا‏]‏ أن يهدى، لعماه وبكمه‏؟‏ كما قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم أنه قال‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 42‏]‏، وقال لقومه‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95، 96‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فما بالكم يُذْهَبُ بعقولكم، كيف سويتم بين الله وبين خَلقه، وعدلتم هذا بهذا، وعبدتم هذا وهذا‏؟‏ وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة‏.‏

ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانًا، وإنما هو ظن منهم، أي‏:‏ توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ تهديد لهم، ووعيد شديد؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37 - 40‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ‏}‏

هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة ‏[‏للعزيرة‏]‏ النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر، ‏{‏وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ من الكتب المتقدمة، ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب‏:‏ ‏"‏فيه خَبَرُ ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم‏"‏، أي‏:‏ خَبَر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبًا ومَيْنا‏:‏ ‏"‏إن هذا من عند محمد‏"‏، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن، فأتوا أنتم بسورة مثله، أي‏:‏ من جنس القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من إنس وجان‏.‏

وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم، إن كانوا صادقين في دعواهم، أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏، ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ وكذا في سورة البقرة -وهي مدنية -تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته، وجزالته وطلاوته، وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به، وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا، كما عرف السحرة، لعلمهم بفنون السحر، أن هذا الذي فعله موسى، عليه السلام، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد مُسَدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله‏.‏ وكذلك عيسى، عليه السلام، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله؛ ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ يقول‏:‏ بل كذب هؤلاء بالقرآن، ولم يفهموه ولا عرفوه، ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ أي‏:‏ ولم يُحصّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأمم السالفة ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوا، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ‏}‏ أي‏:‏ ومن هؤلاء الذين بُعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ‏}‏ أي‏:‏ وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، لا إله إلا هو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41 - 44‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم، ‏{‏فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين‏}‏ ‏[‏سورة الكافرون‏]‏‏.‏ وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين‏:‏ ‏{‏إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأبدان والأديان، وفي هذا كفاية عظيمة، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم -وهو الأطرش -فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء، إلا أن يشاء الله‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة، على نبوءتك لأولي البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار، ‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 41، 42‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى ‏[‏من الغي‏]‏ وبصر به من العمى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبًا غلفا، وأضل به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عنه ربه عز وجل‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا -إلى أن قال في آخره‏:‏ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه‏"‏‏.‏ رواه مسلم بطوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏

يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة‏:‏ كأنهم يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا ‏{‏إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 102 -104‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال‏:‏ ‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112، 114‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض، كما كانوا في الدنيا، ولكن كل مشغول بنفسه ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 10، 15‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 15‏]‏‏.‏ لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين‏.‏ فهذه هي الخسارة العظيمة، ولا خسارة أعظم من خَسارة من فُرّق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 47‏]‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم، ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ مصيرهم ومتقَلَبهم، والله شهيد على أفعالهم بعدك‏.‏

وقد قال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا داود بن الجارود، عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏عُرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة، أولها وآخرها‏.‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، عرض عليك من خُلِق، فكيف من لم يخلق‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏صُوِّروا لي في الطين، حتى إني لأعْرَفُ بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه‏"‏‏.‏ ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن عقبة بن مكرم، عن يونس بن بُكَيْر، عن زياد بن المنذر، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، به نحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني يوم القيامة‏.‏

‏{‏قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ‏}‏ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 69‏]‏، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة‏.‏ وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم، ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق‏"‏ فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها، صلوات الله وسلامه عليه ‏[‏دائمًا‏]‏ إلى يوم الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 52‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذَاب وسؤالهم عن وقته قبل التعين، مما لا فائدة فيه لهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏ أي‏:‏ كائنة لا محالة وواقعة، وإن لم يعلموا وقتها عينا، ولهذا أرشَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ لا أقول إلا ما علَّمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه، فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم يطلعني على وقتها، ‏[‏ولكن‏]‏ ‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ‏}‏ أي‏:‏ لكل قرن مدَّة من العمر مقدَّرة فإذا انقضى أجلهم ‏{‏فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 11‏]‏، ثم أخبرهم أن عذاب الله سيأتيهم بغتة، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا‏}‏ أي‏:‏ ليلا أو نهارا، ‏{‏مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه‏}‏ يعني‏:‏ أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة يقال لهم هذا، تبكيتا وتقريعًا، كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 13 -16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 54‏]‏

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ويستخبرونك ‏{‏أَحَقٌّ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا‏.‏ ‏{‏قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وفي التغابن‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يودّ الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ‏{‏وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‏}‏ أي‏:‏ بالحق، ‏{‏وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55 - 56‏]‏

‏{‏أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنَّ وعده حقّ كائن لا محالة، وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ذلك، العليم بما تفرّق من الأجسام وتمزّق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار ‏[‏سبحانه وتعالى تقدست أسماؤه وجل ثناؤه‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57 - 58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏

يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ زاجر عن الفواحش، ‏{‏وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ من الشُبَه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس، ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى‏.‏ وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به، ‏{‏هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة، كما قال ابن أبي حاتم، في تفسير هذه الآية‏:‏ ‏"‏وذُكِر عن بَقيَّة -يعني ابن الوليد -عن صفوان بن عمرو، سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول‏:‏ لما قُدم خراجُ العراق إلى عمر، رضي الله عنه، خرج عُمَرُ ومولى له فجعل عمر يعد الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول‏:‏ الحمد لله تعالى، ويقول مولاه‏:‏ هذا والله من فضل الله ورحمته‏.‏ فقال عمر‏:‏ كذبت‏.‏ ليس هذا، هو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ وهذا مما يجمعون‏.‏ وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني، فرواه عن أبي زُرْعَة الدمشقي، عن حَيوة بن شُرَيح، عن بقية، فذكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 60‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ نزلت إنكارًا على المشركين فيما كانوا يحرمون ويحلون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏ الآيات‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت أبا الأحوص -وهو عوف بن ‏[‏مالك بن‏]‏ نضلة -يحدث عن أبيه قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قَشْف الهيئة، فقال‏:‏ ‏"‏هل لك مال‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏من أي المال‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم‏.‏ فقال إذا آتاك مالا فَلْيُرَ عليك‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانُها، فتعمَد إلى موسى فتقطع آذانها، فتقول‏:‏ هذه بحر وتشقها، أو تشق جلودها‏.‏ وتقول‏:‏ هذه صُرُم، وتحرمها عليك وعلى أهلك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإن ما آتاك الله لك حل، وساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك‏"‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

ثم رواه عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص وعن بَهْز بن أسد، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، به وهذا حديث جيد قوي الإسناد‏.‏

وقد أنكر ‏[‏الله‏]‏ تعالى على من حَرّم ما أحل الله، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء، التي لا مستند لها ولا دليل عليها‏.‏ ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة‏}‏ أي‏:‏ ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ‏}‏ بل يحرمون ما أنعم الله ‏[‏به‏]‏ عليهم، ويضيقون على أنفسهم، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما‏.‏ وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم‏.‏ وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا رباح، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا موسى بن الصباح في قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة، يؤتى بأهل ولاية الله عز وجل، فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف قال‏:‏ فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول‏:‏ عبدي، لماذا عملت‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب‏:‏ خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها، وحورها ونعيمها، وما أعددت لأهل طاعتك فيها، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري شوقا إليها‏.‏ قال‏:‏ فيقول الله تعالى‏:‏ عبدي، إنما عملت للجنة، هذه الجنة فادخلها، ومن فضلي عليك أن أعتقتك من النار، ‏[‏ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي‏]‏ قال‏:‏ فيدخل هو ومن معه الجنة‏.‏

قال‏:‏ ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني، قال‏:‏ فيقول‏:‏ عبدي، لماذا عملت‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب، خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمُومها، وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها

فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها‏.‏ فيقول‏:‏ عبدي، إنما عملت ذلك خوفا من ناري، فإني قد أعتقتك من النار، ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي‏.‏ فيدخل هو ومن معه الجنة‏.‏

ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث، فيقول‏:‏ عبدي، لماذا عملت‏؟‏ فيقول‏:‏ رب حبًا لك، وشوقا إليك، وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك، فيقول تبارك وتعالى‏:‏ عبدي، إنما عملت حبا لي وشوقا إلي، فيتجلى له الرب جل جلاله، ويقول‏:‏ ها أنا ذا، انظر إلي ثم يقول‏:‏ من فضلي عليك أن أعتقك من النار، وأبيحك جنتي، وأزيرَك ملائكتي، وأسلم عليك بنفسي‏.‏ فيدخل هو ومن معه الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏

يخبر تعالى نبيه، صلوات الله عليه وسلامه أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وآن ولحظة، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقالُ ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين، كقوله‏:‏ ‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ‏}‏ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء، فكيف بعلمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 217 -219‏]‏؛؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال، عليه السلام لما سأله جبريل عن الإحسان ‏[‏قال‏]‏ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62 - 64‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏

‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا‏:‏ أنه ‏{‏لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ فيما يستقبلون من أهوال القيامة، ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ على ما وراءهم في الدنيا‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف‏:‏ أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكِر الله‏.‏ وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار‏:‏ حدثنا علي بن حَرْب الرازي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري -وهو القمي -عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، مَنْ أولياء الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الذين إذا رءُوا ذُكر الله‏"‏‏.‏ ثم قال البزار‏:‏ وقد روي عن سعيد مرسلا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو هشام الرِّفاعي، حدثنا ابن فضيل حدثنا أبي، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير البَجَلي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ من هم يا رسول الله‏؟‏ لعلنا نحبهم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏

ثم رواه أيضا أبو داود، من حديث جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله‏.‏

وهذا أيضا إسناد جيد، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب، والله أعلم‏.‏ وفي حديث الإمام أحمد، عن أبي النضر، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏"‏‏.‏ والحديث متطول‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن ذَكْوَان أبي صالح، عن رجل، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ قال‏:‏ سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية، فقال‏:‏ لقد سألت عن شيء ما سمعتُ ‏[‏أحدًا‏]‏ سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله، فقال‏:‏ ‏"‏هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم، أو تُرَى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة ‏[‏الجنة‏]‏‏.‏

ثم رواه ابن جرير من حديث سفيان، عن ابن المنْكَدِر، عن عَطَاء بن يَسَار، عن رجل من أهل مصر، أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الآية، فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى‏:‏ حدثنا الحجاج بن مِنْهَال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح قال‏:‏ سمعت أبا الدرداء، وسئل عن‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى‏}‏ فذكر نحوه سواء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي -أو‏:‏ أحد قبلك‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏تلك الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرَى له‏"‏‏.‏ وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن عمران القَطَّان، عن يحيى بن أبي كثير، به ورواهالأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، فذكره‏.‏ ورواه علي بن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة قال‏:‏ نُبّئنا عن عبادة بن الصامت، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فذكره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو حميد الحِمْصيّ، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحْمُوسي، عن حميد بن عبد الله المزني قال‏:‏ أتى رجل عبادة بن الصامت فقال‏:‏ آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏‏؟‏ فقال عبادة‏:‏ ما سألني عنها أحد قبلك، سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك‏:‏ ‏"‏ما سألني عنها أحد قبلك، الرؤيا الصالحة، يراها العبد المؤمن في المنام أو تُرَى له‏"‏‏.‏

ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صَفْوان، عن عبادة بن الصامت؛ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرَى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة‏"‏‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد أيضا‏:‏ حدثنا بَهْز، حدثنا حماد، حدثنا أبو عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر؛ أنه قال‏:‏ يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تلك عاجل بشرى المؤمن‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا حسن -يعني الأشيب -حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن، هي جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة، فمن رأى ‏[‏ذلك‏]‏ فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليَحْزُنه، فلينفث عن يساره ثلاثا، وليكبر ولا يخبر بها أحدا‏"‏ لم يخرجوه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابن وَهْب، حدثني عمرو بن الحارث، أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ الرؤيا الصالحة يبشَّرها المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏"‏‏.‏

وقال أيضا ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدَّب، حدثنا عمار بن محمد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هي في الدنيا الرؤيا الصالحة، يراها العبد أو تُرَى له، وهي في الآخرة الجنة‏"‏‏.‏

ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عَيَّاش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي من المبشّرات‏.‏ هكذا رواه من هذه الطريق موقوفا‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الرؤيا الحسنة هي البشرى، يراها المسلم أو تُرَى له‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن حماد الدُّولابي، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سِبَاع بن ثابت، عن أم كُرْز الكعبية‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات‏"‏‏.‏

وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، ومجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، ويحيى بن أبي كثير، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن أبي رباح‏:‏ أنهم فسروا ذلك بالرؤيا الصالحة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30 -32‏]‏‏.‏

وفي حديث البراء‏:‏ ‏"‏أن المؤمن إذا حضره الموت، جاءه ملائكة بيض الوجوه، بيض الثياب، فقالوا‏:‏ اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان‏.‏ فتخرج من فمه، كما تسيل القطرة من فم السقاء‏"‏‏.‏

وأما بشراهم في الآخرة، فكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65 - 67‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلا يَحْزُنْكَ‏}‏ قولُ هؤلاء المشركين، واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه؛ فإن العزة لله جميعا، أي‏:‏ جميعها له ولرسوله وللمؤمنين، ‏{‏هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ أي‏:‏ السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم‏.‏

ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، وأن المشركين يعبدون الأصنام، وهي لا تملك شيئا، لا ضرًا ولا نفعا، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم‏.‏

ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه، أي‏:‏ يستريحون فيه من نَصَبهم وكلالهم وحَرَكاتهم، ‏{‏وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا‏}‏ أي‏:‏ مضيئا لمعاشهم وسعيهم، وأسفارهم ومصالحهم، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسمعون هذه الحجج والأدلة، فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها، ومقدرها ومسيرها‏.‏